فصل: (فرع: على المأموم أن يعلم حركات الإمام)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[مسألة:استحباب الجماعة للنساء]

يستحب للنساء الجماعة في الصلوات التي يسن لها الجماعة، إلا أنها لا تتأكد في حقهن، كتأكدها في حق الرجال، وبه قال عطاء، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وإسحاق.
وقال قتادة، والشعبي، والنخعي: يكره لهن الجماعة في الفرائض، ولا تكره في النوافل.
وقال مالك، وأبو حنيفة: (يكره لهن في الفرائض والنوافل).
دليلنا: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يزور أم ورقة بنت عبد الرحمن بن الحارث بن نوفل الأنصاري، وكان يسميها الشهيدة، وكان يأمرها أن تؤم أهل دارها، وجعل لها مؤذنًا».
إذا ثبت هذا، فالسنة أن تقف إمامتهن وسطهن.
قال ابن الصباغ: ولا يعرف فيه خلاف؛ لما روي: (أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أمت نساء، فقامت وسطهن).
فإن تقدمت عليهن وصلت بهن كره، وصحت صلاتهن، كما لو وقف إمام الرجل وسطهم.
والحرة أولى من الأمة في الإمامة، كما قلنا: إن الحر أولى من العبد.
فإن أمّ الخنثى نساء تقدم عليهن، ووقفن وراءه؛ لجواز أن يكون رجلًا.
ومما يسأل عنه على وجه التعنت، فيقال: إذا أمّ الخناثى واحد منهم، أين يقف؟
فإن قال: وسطهم أو قدامهم، فالجميع خطأ، وإنما الجواب الصحيح: أن يقال: لا يؤم الخنثى الخنثى، وقد مضى.

.[مسألة:صلاة نية الجماعة]

إذا أمّ قومًا، فليس من شرط صحة ائتمامهم أن ينوي الإمام إمامتهم.
وقال أبو حنيفة: (إن أمّ الرجل رجالًا لم تشترط نية الإمام أن يكون إمامًا لهم، وإن أمّ نساء لم تصح صلاتهن خلفه، حتى ينوي الإمام أنه إمامهن).
وقال الأوزاعي: (لا تصح صلاة من خلفه من الرجال والنساء، حتى ينوي الإمام إمامة من خلفه).
دليلنا على الأوزاعي: حديث ابن عباس الذي ذكرناه في أول الباب.
وروى «أنس قال: أتيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في رمضان، وهو يصلي، فوقفت خلفه، ثم جاء آخر، فوقف بجنبي، حتى صرنا رهطًا كثيرًا، فلما أحس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بنا أوجز في صلاته، ثم قال: إنما فعلت هذا لأجلكم»، فسقط بهذا مذهب الأوزاعي.
ونقيس على أبي حنيفة المرأة على الرجل، فنقول: كل من صح ائتمامه، إذا نوى الإمام إمامته صح، وإن لم ينو إمامته كالرجل.

.[فرع: موقف المرأة وصلاة الرجل خلف الصف]

وإن وقفت المرأة مع الرجل أو قدامه صحت صلاة الرجل، وإن وقف الرجل في الصف وحده خلف المأمومين كره ذلك، وصحت صلاته.
وقال أحمد، وإسحاق: (تبطل صلاته). واختاره ابن المنذر.
دليلنا: ما روي: «أن أبا بكرة دخل المسجد، وهو يلهث، وقد ركع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأحرم، وركع معه، ثم دخل الصف، فلما فرغ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صلاته قال: أيكم الذي ركع خلف الصف وحده؟، فقال أبو بكرة: أنا يا رسول الله، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: زادك الله حرصًا، ولا تعد»، ولم يأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالإعادة.
وأما قوله: "ولا تعد": فيحتمل ثلاثة تأويلات:
أحدها: لا تعد إلى العدو الشديد؛ لأنه جاء يلهث، وهذا كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا أتيتم الصلاة، فلا تأتوها وأنتم تسعون، ولكن ائتوها وأنتم تمشون، وعليكم السكينة».
والثاني: أنه أراد: لا تعد أن تتأخر عن الصلاة، حتى تفوتك الركعة.
والثالث: لا تعد إلى الإحرام خلف الصف.

.[فرع: تقدم المأموم]

إذا تقدم المأموم على الإمام، وصلى بصلاته في غير المسجد الحرام، ففيه قولان:
الأول: قال في الجديد: (لا تصح صلاته)، وبه قال أبو حنيفة، وهو الصحيح؛ لأنه قد وقف في موضع ليس بموقف مؤتم بحال، فأشبه إذا وقف في موضع نجس.
فقولنا: (بحال) احتراز ممن وقف على يسار الإمام وحده.
والثاني: قال في القديم: (تصح صلاته)، وبه قال مالك، وإسحاق، وأبو ثور؛ لأنه خالف سنة الوقف مع الإمام، فوجب ألا يمنع صحة الصلاة، كما لو وقف على يسار الإمام وحده، فإن صلى الإمام في المسجد الحرام إلى ناحية من نواحي الكعبة، فاستدار المأمومون حول الكعبة، فإن من كان منهم في جهة الإمام، إذا تقدم على الإمام، وكان أقرب إلى الكعبة من إمامه، فعلى القولين في التي قبلها.
وأما صلاة من كان أقرب إلى الكعبة من الإمام في غير جهة الإمام، ففيه طريقان:
الأول: قال أبو إسحاق المروزي: هي على قولين كالأولى.
والثاني: قال عامة أصحابنا: تصح قولًا واحدًا وهو المنصوص؛ لأن قرب المأموم في غير جهة الإمام لا يكاد يضبط، ويشق مراعاة ذلك، وفي جهته لا يشق عليه مراعاة خلف الإمام؛ ولأن المأموم إذا كان في غير جهة الإمام، فليس هو بين يديه، وإن كان أقرب إلى الكعبة منه، وإذا كان في جهته كان بين يديه، فلهذا افترقا؛ ولأن الشافعي قد نص في " الجامع الكبير ": (إذا كان الإمام يصلي إلى الكعبة على الأرض، والمأموم على سطحها، فصلى بصلاته، أجزأه ذلك). والمأموم هاهنا أقرب.

.[مسألة:استحباب الصف الأول]

والمستحب: أن يتقدم في الصف الأول؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول، ثم لا يجدون إلا أن يستهموا عليه، لاستهموا عليه».
وروى البراء بن عازب: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول» يعني: على أهل الصف الأول، والصلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الدعاء.
ويستحب أن يعتمد يمين الإمام؛ لما روي عن البراء بن عازب: أنه قال: «كان يعجبنا عن يمين رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لأنه كان يبدأ بمن على يمينه، فيسلم عليه».
فإن وجد في الصف الأول فرجة، فالمستحب: أن يسدها؛ لما روى أنس: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أتموا الصف الأول، فإن كان نقص ففي المؤخر».
فإن لم يجد في الصف الأول مدخلًا فاختلف أصحابنا فيه:
فقال الشيخ أبو حامد، والمحاملي، وسليم: يجذب رجلًا يصلي معه، فإن لم يفعل كره له أن يصلي وحده، وهو قول عطاء والنخعي.
وقال القاضي أبو الطيب وابن الصباغ: يقف وحده في الصف الثاني، وهو المنصوص في " البويطي "، وبه قال مالك؛ لما ذكرناه من حديث أنس؛ ولأن في جذبه رجلًا يحدث خللًا في الصف الأول، ويحرم المجذوب فضيلة الصف الأول، وليس له ذلك.

.[فرع: على المأموم أن يعلم حركات الإمام]

فإذا صلى بصلاة الإمام وهما في المسجد، فإنه يعتبر في صحة صلاة المأموم علمه بصلاة الإمام، إما أن يشاهده، أو يسمع تكبيره، أو يبلغ عنه، وسواء كان بين الإمام والمأموم قريب أو بعيد، وسواء كان بينهما حائل، أو لا حائل بينهما، وهذا إجماع لا خلاف فيه؛ لأن المسجد كله موضع للجماعة الواحدة، واعتبار رؤية الإمام ومشاهدته في المسجد لا يمكن.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك المساجد اللطاف المتصلة بالجامع، وأبوابها شارعة إلى الجامع، فحكم من يصلي فيها بصلاة الإمام في الجامع، حكم من يصلي بصلاته في الجامع؛ لأنها إن بنيت مع الجامع فهي منه، وإن بنيت بعده فهي مضافة إليه.
قال الصيدلاني: ومثله إذا صلى في رحبة المسجد؛ لأنها من جملة المسجد.
فإن صلى على سطح المسجد بصلاة الإمام في المسجد جاز؛ لما روي: (أن أبا هريرة صلى فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام في المسجد).
ولأن سطح المسجد كقراره، بدليل: أن الجنب لا يلبث فيه، كما لا يلبث في قراره؛ ولأن أكثر ما فيه الحيلولة بينه وبين الإمام بالسقف، والحيلولة في المسجد لا تمنع الصلاة، كما لو كان في قرار المسجد.
إذا ثبت هذا: فيحتاج أن يقف وراء الإمام، فإن وقف حذاء رأس الإمام كره، وأجزأه.
وإن وقف، بحيث يكون قدام الإمام ففيه قولان، كما لو كانا في القرار.
قال الصيمري: وإن كان سطح المسجد مملوكًا، فصلى عليه رجل بصلاة الإمام في المسجد لم تصح صلاته؛ لأنه ليس من جملة المسجد.

.[فرع: صلاة المأموم خارج المسجد]

فأما إذا صلى خارج المسجد بصلاة الإمام في المسجد، ولم يكن بينهما حائل يمنع الاستطراق والمشاهدة، بأن لم يكن للمسجد حائط، أو كان له حائط، ووقف المأموم بحذاء الباب، وهو مفتوح، فإن كان بينهما مسافة قريبة جاز، إذا علم بصلاة الإمام، وإن كان بينهما مسافة بعيدة لم يجز، هذا قول كافة العلماء.
وقال عطاء: يعتبر علمه بصلاة الإمام، وإن كان بينهما مسافة بعيدة.
دليلنا: قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9]، فأوجب الله السعي إلى الجمعة، فلو كان كل من صلى خارج المسجد بصلاة الإمام يجزئه إذا علم بصلاة الإمام، لما وجب عليه السعي.
والمسافة القريبة: ثلاثمائة ذراع، والبعيدة ما زاد، ومن أين تعتبر هذا المسافة؟ فيه وجهان.
أحدهما وهو المشهور من المذهب: أنها تعتبر من حائط المسجد.
فعلى هذا: لو وقف الإمام في محراب المسجد، ومساحة المسجد ألف ذراع أو أكثر، ثم وقف صف خارج المسجد، بينه وبين حائط المسجد ثلاثمائة ذراع، وهم عالمون بصلاة الإمام صح، وكذلك لو وقف صف آخر بينه وبين الصف الأول ثلاثمائة ذراع، ثم بعده صف، وبينهما هذه المسافة، حتى اتصلت الصفوف فراسخ صح ذلك؛ لأن المسجد كله موضع للجماعة، فجعل آخره كأوله.
والثاني حكاه في "الإبانة" [ق \ 84] أنه يعتبر من موقف الإمام.
وإن كان بينه وبين الإمام حائط المسجد؛ ففيه وجهان:
أحدهما وهو قول أبي إسحاق: لا يمنع؛ لأن حائط المسجد لا يمنع صحة ائتمام من في داخل المسجد، فلم يمنع صحة ائتمام من في خارجه؛ ولأن الشافعي قال: (لو صلى في رحبة المسجد بصلاة الإمام في المسجد أجزأه). ومعلوم أن بينهما حائط المسجد.
والثاني وهو قول أكثر أصحابنا، وهو الصحيح: أنه يمنع؛ لأن هذا الحائط بني للفصل بينه وبين غيره، فمنع، كحائط غير المسجد.
وأما ما ذكره من الرحبة: فلأن الرحبة من جملة المسجد، أو يحمل على من كان حذاء باب المسجد، وهو مفتوح، فعلى قول أبي إسحاق: لو كان لرجل دار بجنب المسجد، وحائط المسجد حائط داره، جاز له أن يصلي في بيته بصلاة الإمام في المسجد، إذا علم بصلاته، وعلى قول عامة أصحابنا: لا يجوز.
وإن كان بينهما حائل يمنع الاستطراق دون المشاهدة، كالشباك ففيه وجهان:
أحدهما: يمنع؛ لأنه يمنع الاستطراق، فهو كالحائط.
والثاني: لا يمنع؛ لأنه لا يمنع الشاهدة.

.[فرع: موقف المأموم في الفلاة]

فأما إذا كان الإمام يصلي في صحراء، فإن الإمام هاهنا للصف الأول، كالمسجد للصف الأول خارج المسجد، إذا كان الإمام يصلي في المسجد، فإن وقفوا من الإمام على ثلاثمائة ذراع فما دون أجزأتهم صلاتهم، وكذلك لو وقف صف، بينه وبين الصف الأول ثلاثمائة ذراع، ثم ثالث، ورابع، وهم عالمون بصلاة الإمام صح.
واختلف أصحابنا: من أين أخذ الشافعي هذا الحد؟ فذهب أبو العباس، وأبو إسحاق: إلى أنه أخذه من صلاة الخوف؛ لـ: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحرم بطائفة، وصلى بهم ركعة».
وفي رواية ابن عمر: (أنها مضت إلى وجه العدو، وهي في الصلاة، وكن بينه وبينها قدر ثلاثمائة ذراع)؛ ولأنهم إنما يحرسون المسلمين من وقوع السهام؛ لأنها أبعد وقعًا من جميع السلاح، وأكثر ما يبلغ إليه السهم ثلاثمائة ذراع.
وذهب ابن خيران، وابن الوكيل: إلى أن الشافعي لم يأخذه من هذا، وإنما أخذه من عرف الناس وعادتهم، وهو ظاهر النص؛ لأن الشافعي قال: (وقربه ما يعرفه الناس قربًا)، وهذا اختيار الشيخ أبي حامد، وابن الصباغ.
وهل ذلك تحديد، أو تقريب؟ فيه وجهان.

.[مسألة:الصلاة في دار بقرب المسجد]

قال الشافعي: (ولو صلى في دار قرب المسجد لم يجز، إلا بأن تتصل الصفوف، لا حائل بينه وبينها)، وجملة ذلك: أنه إذا صلى في داره، أو دار غيره بصلاة الإمام في المسجد، فإن كان يصلي في قرار الدار، وباب داره مفتوح، يرى منه الإمام، أو بعض المأمومين، فاختلف أصحابنا في ذلك:
فقال أبو إسحاق: لا يجوز، إلا أن تكون الصفوف متصلة إلى داره اتصال العادة؛ لأن الشافعي اشترط ذلك.
والفرق بينه وبين الصحراء: أن الصحراء مهيأة لمرافق المسلمين، ومن مرافقهم الصلاة، وداره لم تبن لذلك، وإنما هي ملك له خاص، وهذه طريقة المسعودي [في "الإبانة" ق \ 86].
وقال أبو علي في "الإفصاح": لا فرق بين الدار وبين الطرق والصحارى، ويراعى فيه القرب والبعد الذي ذكره الشافعي.
وقوله: (إلا أن تتصل الصفوف) أراد: ألا يكون بين الصفين أكثر من ثلاثمائة ذراع؛ لأن هذا عنده حد الاتصال.

.[فرع: الصلاة في الدور]

قال المسعودي: [في "الإبانة" ق \ 86] إذا صلى في البنيان، فإن كان في بقعة وحدة، مثل: صفة، أو بيت، فيعتبر القرب والبعد على ما ذكرناه.
فإن اختلفت بهم البقعة، مثل: أن كان الإمام في الصفة، وهو في البيت، فيشترط اتصال الصف.
قال: واتصال الصف في الصف، من يسار الإمام ويمينه: هو أن يلتزق الجنب بالجنب، فأما إذا كان بين رجلين فرجة نظر: فإن كان أقل من موقف رجل فلا يضر ذلك، وإن كان أكثر من موقف رجل فيمنع من الاقتداء؛ لأنه لا يكون اتصال الصف، فإن كان بينهما عتبة، فإن كانت صغيرة، بحيث لا يمكن الوقوف عليها، لا تكون حائلًا، وإن كانت عريضة، بحيث يمكن الوقوف عليها كانت حائلة عن الاقتداء.
وهل يراعى وراء الإمام اتصال الصف؟ فيه وجهان:
الأصح: أنه يراعى، فيشترط ألا يكون بين الصفين أكثر من ثلاثة أذرع، فإن كان بينهما أكثر من ثلاثة أذرع لم يكن اتصال الصف.
والثاني: لا يراعى.
فعلى هذا: لو كان الإمام في الصفة مع قوم، فاقتدى به واحد في الصحراء، لم يصح اقتداؤه، وإن كان قريبًا من الصف.

.[فرع: الصلاة في علو غير المسجد تمنع الاقتداء]

فأما إذا صلى في علو الدار بصلاة الإمام في المسجد، قال الشافعي: (لم يجزئه بحال، وإن كانوا يرون من في الصحن؛ لأنها بائنة من المسجد، وليس بينهما قرار يمكن اتصال الصفوف به)؛ لأن الصف لا يتصل إلى فوق، فإنما يتصل بالقرار.
وقال في "الإفصاح": ومن كان على الصفا والمروة، أو على جبل أبي قبيس، يصلي بصلاة الإمام في المسجد، تصح صلاته، وإن كان أعلى منه؛ لأن ذلك متصل بالقرار، وقد يكون القرار مستعليًا، ومستفلًا، ومستويًا، وليس كذلك السطح؛ لأنه ليس من القرار، والصف لا يتصل.
وإن صلى رجل على سطح الدار بصلاة الإمام في الدار، أو في صحنه لم تصح صلاته؛ لأن بينهما حائلًا يمنع المشاهدة والاستطراق، والفرق بينه وبين المسجد: أن المسجد بني كله للصلاة، وسطحه منه، وليس كذلك الدار؛ لأن سطحها بني للحائل، ولم يبن للصلاة.

.[فرع: وجود طريق بين الإمام والمأموم]

إذا كان بين الإمام والمأموم شارع، أو طريق جازت صلاته، هذا نقل أصحابنا البغداديين.
وقال أبو حنيفة: (الشارع والطريق يمنع الاقتداء). وهو قول المسعودي [في "الإبانة" ق \ 84]، إلا أن تتصل الصفوف.
دليلنا: ما روي: (أن أنسًا كان يصلي في بيوت حميد بن عبد الرحمن بن عوف بصلاة الإمام في المسجد، وبينهما شارع)، ولا مخالف له؛ ولأنه من الإمام على مسافة قريبة لا حائل بينهما، فأشبه إذا لم يكن بينهما طريق.

.[فرع: الصلاة في السفينة]

يجوز أن يصلي الفرض والنفل في السفينة، سواء كانت واقفة أو سائرة؛ لأنه يتمكن فيها من القيام، والركوع، والسجود.
قال الشيخ أبو حامد: وكذلك لو أمكنه القيام، والركوع، والسجود في الكنيسة على الراحلة، جاز أن يصلي عليها الفرض إلى القبلة، وإن كانت الراحلة تسير.
وفيها وجه مضى ذكره وهو المنصوص: (أنه لا تصح)، ولا يجوز أن يصلي النافلة في السفينة إلا إلى القبلة؛ لأنه يمكنه ذلك من غير مشقة.
وأما وجوب القيام في الفريضة إذا كان في السفينة: فإن كان لا يخاف الغرق ولا دوران رأسه عند القيام لزمه ذلك، وإن كان يخالف الغرق، أو كان رأسه يدور عند القيام، لم يلزمه القيام.
وقال أبو حنيفة: (يجوز له أن يصلي فيها الفرض قاعدًا، بكل حال).
دليلنا: ما روى ابن عباس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال له جعفر لما بعثه إلى الحبشة: يا رسول الله، كيف أصلي في السفينة؟ فقال له: صل فيها قائمًا، إلا أن تخاف الغرق».
ولأنه مستطيع للقيام في صلاة مفروضة، فلم يجز له تركه، كما لو كان في غير السفينة.
فإن أراد أن يأتم من في سفينة، بإمام في سفينة أخرى، فإن كانتا مغطاتين لم يجز؛ لأن بينهما حائلًا يمنع الاستطراق والمشاهدة.
وإن كان لا حائل بينهما، وكانتا متصلتين جاز، وهكذا إذا كانتا منفصلتين، وكان بينهما ثلاثمائة ذراع أو أقل جاز.
واشترط صاحب "الإفصاح" مع ذلك: إذا كانوا يجرون بريح رخاء، يأمنون أن تتقدم إحداهما على الأخرى، هذا قول عامة أصحابنا، إلا أبا سعيد الإصطخري، فإنه قال: الماء يمنع الاقتداء، وهو قول أبي حنيفة.
دليلنا: أن الماء لا يراد للحائل، وإنما يراد للمنفعة، فهو كالنار.
ويشترط أن تكون السفينة التي فيها الإمام متقدمة على التي فيها المأمومون، فإن كانت محاذية لها كره وأجزأهم، وإن تقدمت سفينة المأمومين، فهل تصح صلاتهم؟ فيها قولان. وبالله التوفيق.

.[باب صلاة المريض]

إذا عجز عن القيام جاز له أن يصلي الفرض قاعدًا؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191].
قيل في التفسير: (قيامًا) إذا قدروا عليه، و (قعودًا) إذا لم يستطيعوا القيام، و (على جنوبهم) إذا لم يقدروا على الجلوس.
وروي «عن عمران بن الحصين: أنه قال: كان بي بواسير، فسألت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة، فقال: صل قائمًا، فإن لم تستطع فجالسًا، فإن لم تستطع فعلى جنب».
وروى أنس: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سقط من راحلته، فجحش شقه الأيمن، فصلى قاعدًا، وصلى الناس معه قعودًا».
والعجز الذي يجوز له ترك القيام: إما أن يكون زمنًا لا يستطيع القيام أصلًا، أو يكون صحيحًا، إلا أنه لا يستطيع القيام إلا بتحمل مشقة شديدة، أو يخاف تأثيرًا ظاهرًا في العلة؛ لأن كل عبادة لم يقدر على فعلها إلا بمشقة شديدة جاز له تركها إلى بدلها؛ لأجل المشقة، كالمسافر في شهر رمضان: له أن يفطر وإن كان يقدر على الصيام لو تحمل المشقة.
إذا ثبت هذا: فكيف يقعد؟ فيه قولان:
أحدهما: يقعد متربعًا؛ لما روت عائشة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلى متربعًا».
والثاني: يقعد مفترشًا؛ لأن ذلك قعود العبادة، والتربع قعود العادة.
والذي يقتضي القياس: أن القولين في الاستحباب، لا في الوجوب.
إذا ثبت هذا: فإن الجالس إذا أمكنه الركوع والسجود فعل ذلك.
قال في "الفروع": وينحني في الركوع، حتى يصير بالإضافة إلى القاعد، كالراكع بالإضافة إلى القائم.
وإن لم يقدر أن يسجد على الأرض لعلة بجبهته، أو ظهره انحنى أكثر ما يقدر عليه.
قال الشافعي: (وإن أمكنه أن يسجد على صدغه فعل ذلك).
قال أصحابنا: وأراد بهذا: أن يأتي بما تكون جبهته إلى الأرض أقرب، فكلما كان أقرب إلى الأرض كان أولى، فلو علم أنه لو سجد على عظم رأسه الذي فوق الجبهة، كنت الجبهة من الأرض أقرب فعل ذلك، ولو علم أنه لو يسجد على صدغه، كانت جبهته أقرب فعل.
فإن سجد على مخدة نظرت: فإن وضعها على يديه، وسجد عليها لم يجزئه؛ لأنه سجد على ما هو حامل له، وإن وضع المخدة على الأرض، وسجد عليها أجزأه، وهكذا إذا سجد على شيء مرتفع، وهو صحيح أجزأه، ما لم يخرج عن هيئة السجود.
قال في "الأم": (وإذا كان قادرًا على أن يصلي قائمًا منفردًا، ويخفف الصلاة، وإذا صلى خلف إمام، احتاج أن يقعد في بعضها، أحببت له أن يصلي منفردًا، وكان هذا عذرًا في ترك الجماعة، فإن صلى مع الإمام، وجلس فيما عجز عنه كانت صلاته صحيحة).
وإن كان بظهره علة لا تمنعه من القيام، وتمنعه من الركوع والسجود وجب عليه القيام، ويركع ويسجد، على حسب ما يقدر عليه.
وقال أبو حنيفة: (هو بالخيار: إن شاء صلى قائمًا، وإن شاء صلى جالسًا، إذا عجز عن الركوع).
دليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لعمران بن الحصين: «صل قائمًا، فإن لم تستطع فجالسًا»، وهذا مستطيع للقيام، فلم يسقط عنه، فإذا بلغ إلى الركوع، وعجز عن أن يحني ظهره حتى رقبته، فإن لم يقدر عليها، إلا بأن يعتمد على عكازة، أو غيرها؛ اعتمد عليها وانحنى.
وإن تقوس ظهره من الكبر أو الحدب، حتى صار يمشي كالراكع، ولا يقدر على الاستواء، فعليه أن يصلي على حالته، فإذا بلغ إلى الركوع انحنى وإن كان يسيرًا؛ ليقع الفصل بين القيام والركوع.
وإن كان بعينيه رمد أو غيره، وكان يقدر على الصلاة قائمًا، فقيل له: إن صليت مستلقيًا على قفاك كان برؤك أسرع:
قال أصحابنا: فليست بمنصوصة للشافعي، ولكن قال مالك والأوزاعي: (لا يجوز له ذلك).
قال الشيخ أبو حامد، وأكثر أصحابنا: وهذا هو الأشبه بمذهبنا.
وقال الثوري، وأبو حنيفة: (يجوز له ترك القيام)، وحكاه الشيخ أبو إسحاق عن بعض أصحابنا.
ووجهه: أنه لو كان صائمًا، فرمدت عينه، فاحتاج إلى الفطر لأجل ذلك؛ لكان له أن يفطر، كذلك هاهنا، يجوز له ترك القيام؛ لسرعة برئه.
ووجهه الأول: ما روي: أن ابن عباس، لما وقع في عينيه الماء، وكف بصره أتاه رجل، وقال له:إن صبرت علي سبعة أيام تصلي مستلقيًا داويتك، ورجوت برأك، فأرسل إلى عائشة، وأم سلمة، وأبي هريرة، وغيرهم من الصحابة، فسألهم عن ذلك، فقالوا له: إن مت في هذه السبع ما تفعل بصلاتك؟ ! ولما ترك المداواة.
وأما الصوم: فإنما جاز له تركه؛ لأنه يرجع إلى بدل تام مثله، وليس كذلك هاهنا؛ لأنه لا يرجع منه إلى بدل تام، فلم يجز له تركه بأمر مظنون.